التوريق (التسنيد))
يعد التوريق (التسنيد) أحد المكونات الأساسية في أسواق رأس المال اليوم. والتوريق هو عملية تحويل الأصول المدرة للدخل إلى أوراق مالية. وقد أصبحت عملية التوريق جزءاً مهما من أسواق رأس المال منذ أوائل السبعينيات. لقد قدمت عملية التوريق أسعارا متدنية للمقترضين، وضمانات أفضل للمقرضين، وزيادة في السيولة إضافة إلى توفير مصادر تمويل بديلة في أسواق رأس المال. رغم ذلك وفي ظل الأزمة المالية الراهنة تتكرر الإشارة إلى أن عملية التوريق هي أحد أسباب هذه الأزمة الناجمة في جلّها عن عمليات الرهن بفوائد متدنية.
لكن من الأهمية إدراك أن زيادة عمليات المضاربة (الإقراض) المثقلة بالديون التي بدأت تزحف نحو التوريق خلال السنوات العشر الأخيرة (مثل سندات القروض برهن موجودات، عمليات الرهن بأسعار فائدة متدنية، مبادلات التخلف عن إيفاء القروض بضمان موجودات) هي التي أدت إلى الانهيار المالي وليس عملية التوريق في حد ذاتها.
إن أساس طبيعة عملية التوريق هو التزامها بأحكام الشريعة. ففي عملية التوريق يمتلك المستثمرون الأصول التي تدر عليهم الأرباح. وفي عملية التوريق تستمد أرباح المستثمرين من التدفق النقدي للأصول الحقيقية. كما أن المستثمرين في عملية التوريق يتعرضون لمخاطر الأصول التي تدر عليهم العوائد. كل هذه المزايا لعملية التوريق هي شروط يتطلبها النظام المالي الذي يراعي أحكام الشريعة الإسلامية.
التوريق في النظام المالي
إن التوريق في ظل النظام المالي وفق أحكام الشريعة يتضمن مكوناً أخلاقياً، وهذا أمر أخلاقي يفتقر إليه النظام المالي التقليدي. إن التوريق في ظل النظام المالي وفق أحكام الشريعة يستخدم في تمويل النشاطات الإنتاجية، وتمويل عمليات شراء وبيع الأصول الحقيقية، إضافة إلى أنها تستخدم عموماً في خلق فرص تمويل مفيدة اجتماعياً.
إن المزايا الهيكلية للتوريق الذي يراعي أحكام الشريعة يحرّم تلك المزايا الجشعة المجردة من المبادئ الخلقية لعملية التوريق التقليدية التي نجمت عنها مشكلات جمة. فمن أجل الالتزام بقانون الشريعة فإنه يحرّم على عمليات التوريق التي تراعي أحكام الشريعة القيام بمعاملات فيها ميسر، ومخاطر غير محسوبة، والغرر (الغش والخداع)، ودرجات عالية من الشك. كما تحرّم المعاملات المثقلة بالديون وعمليات الإقراض المحفوفة بالمخاطر وغير المضمونة. لو أن النظام المالي التقليدي بني على قاعدة أخلاقية شبيهة لما وقعت الأزمة المالية العالمية الراهنة أو أنها كانت على الأقل أخف وطأة مما هي عليه اليوم.
المضاربون والتوريق
التوريق وفق أحكام الشريعة لا يستهوي المضاربين المستهترين أصحاب الرؤية الضيقة وقصيرة المدى الذين يسيرهم بالتناوب إما الجشع وإما الخوف. إن التوريق وفق أحكام الشريعة في الواقع لا يشجع المستثمرين الذين
يضاربون دون الانخراط في معاملات مفيدة والسعي وراء عوائد من مشاريع ذات أهداف اقتصادية حقيقية.
ولطالما حث المشرعون النظام المالي التقليدي على وجوب تجنب "الوفرة اللاعقلانية". ولكن لا يهم مهما تعزى أعداد كبيرة من الانهيارات المالية إلى معاملات المضاربة التي تعد بأرباح ضخمة دون إنتاجية تذكر، وفئات الموجودات التي ليست فاسدة أخلاقيا فحسب وإنما مؤذية اجتماعيا، والاحتكام إلى أدنى غرائز المستثمرين الجشعة، فإنه مكتوب على النظام المالي التقليدي فيما يبدو أن يكون قدره السقوط في براثن الانهيارات الدورية المتكررة.
يجب على المستثمرين ألا يخشوا من عمليات التوريق المتوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية، ولكن عليهم الحذر من التوريق التقليدي الذي سمح بزيادة المضاربة والدخول في مخاطر غير ضرورية للسيطرة على هدف المعاملات. وعلى المستثمرين أن يدركوا أنه إضافة إلى تحريم الميسر والغرر فإن عمليات التوريق وفق الشريعة الغش، وحجب المعلومات، والجهالة، والادعاء الكاذب، والتغرير، والخداع. ففي التوريق وفق الشريعة يعلم المستثمر أنه ملتزم ومقيد بقدر ومصير التجارة التي تم تمويلها. لو كانت هذه القيود والمبادئ مطلوبة في النظام المالي التقليدي لكان العالم في وضع أفضل مما هو عليه الآن.
فوائد التوريق الذي يراعي أحكام الشريعة
يواجه العمل المصرفي الإسلامي تحديات عديدة أمام منافسة العمل المصرفي التقليدي. وبسبب تحريم جني الفائدة على الأموال يركز العمل المصرفي الإسلامي بقوة على الأصول الأولية، وليس فقط على تداول المال لقاء التنازل عن التدفق النقدي. يتعين على النظام المالي الذي يعمل وفق أحكام الشريعة الانخراط في تمويل النشاطات الاقتصادية الحقيقية التي ينجم عنها سلع وعوائد حقيقية. لذا لن يسمح التوريق وفق الشريعة للأوراق المالية المستحدثة أن تكون مستقلة بذاتها أو أن تكون منافسات مركبة للأصول الأولية وما تنتجه من عوائد. كما أنه لن يسمح لورقة مالية ممتازة أن تستخرج من أصول أولية "ذات مخاطر عالية". علاوة على ذلك، فإن التوريق وفق الشريعة يقدم الحماية الضرورية لمنع التوريق من التحول إلى مجرد عملية متاجرة بالديون التي تدعى "الابتكار المالي". كما أن التوريق وفق الشريعة لن يعتمد على ممارسات الإقراض النهّابة (المفترسة) التي أوجدها ومولها الدين الرديء وتحوطت عن طريق مبادلات التخلف عن إيفاء القروض.
ولم يأت التوريق وفق الشريعة الإسلامية إلا للوقاية من جميع هذه المخاطر التي أسهمت بشكل أو بآخر في خلق أزمة القروض بأسعار متدنية وما ترتب عليها من عواقب وخيمة.
فوائد التوريق للمصارف الاستثمارية المنشأة
تنويع مصادر التمويل التي ترجمت إلى عدد من الفوائد تشمل:
- تقليل مخاطر التمويل لديهم من خلال تقليل الاعتماد على عدد محدود من مصادر التمويل.
- تخفيض تكلفة الصناديق الاستثمارية لديهم من خلال تفكيك الوساطة والاعتماد فقط على الدين المصرفي.
- تعزيز الهيكلة المالية التي تتجلى من خلال الفوائد التالية:
- تحسين النسب المالية لديهم بشكل أساسي عن طريق الربحية، الدين، السيولة ومضاعف حقوق المساهمين، والارتياح الحاصل من استرداد بعض المخصصات (الشروط) القانونية المرتبطة بهذه الأصول والمفروضة من قبل المصارف المركزية التابعين لها أو الهيئات التنظيمية الأخرى.
- تحسين الأصول وعملية إدارة الخصوم وتقليل التباين بين طرفي الميزانية العمومية لديهم.
- عزل قابلية تعرضهم لمخاطر تقلبات أسعار السوق الناجمة عن التحولات غير المواتية المحتملة طويلة الأجل مقابل أسعار السوق قصيرة الأجل.
- تأمين نموهم المستقبلي الذي يعد نتاجاً ثانوياً للفوائد المذكورة أعلاه، إضافة إلى كونه نتيجة لسحب هذه الأصول من الميزانية العمومية. وهنا سيسمح للمصارف المنشأة بالتركيز على رفع خبرتها في خلق مثل هذه الأصول دون حصرها وتقييدها بحجم ميزانياتها العمومية وإنما بحجم السوق.
فوائد التوريق للمستثمرين
- إن توريق الأصول عن طريق المصارف المنشأة يمكّن المستثمرين من اتخاذ قراراتهم الاستثمارية بشكل مستقل عن مركزهم الائتماني (جدارتهم الائتمانية)، والتركيز في المقابل على درجة الحماية التي توفرها هيكلية الأوراق المالية ومقدرة الأصول المحولة إلى أوراق مالية لتلبية التدفق النقدي الموعود.
- يمنحهم منفذاً استثمارياً كان في السابق حكراً فقط على بضعة شركات.
- يباين وينّوع تعرضهم للمخاطر من مخاطر لشركة واحدة إلى عدد كبير من الملتزمين قد يصل إلى المئات وحتى الآلاف.
- يقدم لهم فرصة لحصد فوائد الاستثمار في معاملات مبرمة ومنقولة من مرحلة التمويل الاستهلاكي أو أية عمليات تمويلية أخرى إلى مرحلة الاستثمار في ورقة مالية.
- يقدم لصناديق الأوقاف والأموال الموقوفة إضافة إلى شركات الضمان التكافلي وصناديق التقاعد فرصة للاستثمار في الأوراق المالية ذات الدخل الثابت طويل الأجل التي تراعي أحكام الشريعة وبالتالي فهو يقدم لهم فرص استثمارية بديلة تنسجم مع طبيعة التزاماتهم الطويلة الأجل.
فوائد التوريق للمستهلكين
- كلما كانت شركات التمويل أو المصارف المنشأة الأخرى قادرة على تنويع مصادر تمويلها، انخفضت تكلفة رأس المال، ومن المرجح في هذه الحال أن ينعكس هذا الانخفاض في عروض الأسعار المقدمة للمستهلكين، وإن لم يتم تقديمها طوعياً سيتم فرضها بفعل قوى المنافسة نتيجة الزيادة في مصادر العرض.
- قد يسهم التوريق في تمتع المستهلكين بمزايا الأسعار المنخفضة والتمويل طويل الأجل الذي يعتمد على الأسعار الثابتة غير المرغوبة في الوقت الراهن خوفاً من تأثير مخاطرها في المؤسسات المالية. ويتحقق ذلك عن طريق إزالة الأصول التي تولد دخلا ثابتا من الميزانية العمومية للمؤسسات المالية وإسكانها في البيئة التي تنتمي إليها، أي في قاعدة مستثمرين أوسع تناسب إقبالها على المخاطرة وآفاقها وأهدافها واستراتيجياتها الاستثمارية مع الأوراق المالية التي أوجدتها وضمنتها هذه الأصول.
- إن تلبية احتياجات المستهلكين لم تعد محصورة بحجم الميزانية العمومية لبضعة مصارف وهيئات مالية وقد يتجلى هذا أيضاً في التمتع بمزايا التمويل طويل الأجل عوضاً عن التمويل الذي تقدمه المصارف والهيئات المالية.
فوائد التوريق للقطاع المالي
- يسهم التوريق في خلق سوق أكثر تكاملاً من خلال تقديم فئات جديدة من الأصول المالية التي تناسب رغبات المخاطرة لدى المستثمرين عن طريق زيادة إمكانية المستثمرين في تحقيق فوائد التنوع التي تلبي حاجات قطاعات السوق المختلفة.
- من المرجح أن يزيد من إمكانية السوق وفرص النمو نظراً لأن نموه لن يكون محصوراً بحجم الهيئات المالية.
- يميل إلى إحداث بيئة تنافسية نتيجة زيادة مصادر العرض.
يمكن أن يسهم في الصحة المالية لمؤسسات التمويل الحالية من خلال تحسين نسبهم وتقليل التباين بين الأصول والالتزامات المالية واعتبار الجدول الزمني للسداد أمراً خارجياً، وهذه أمور تتناسب بشكل أكبر مع أهداف مجموعة معينة من المستثمرين وليس مع أهداف المؤسسات المالية.
- يسهم في تشتيت التمويل ومخاطر القروض (الائتمان) على قاعدة أوسع وبالتالي يخفض من تمركز المخاطرة حالياً على عواتق المؤسسات المالية بمفردها.
- سيساعد في الإسهام في تحسين تصنيف العديد من المؤسسات المالية في المملكة الذي تقوم به وكالات التصنيف الدولية.
- سيقدم بدائل حقيقية من خلال توريق معاملات "مرابحة السلع أو المعادن" أو معاملات التورق التي أعاقت نمو وتطور وإبداع الصناعة لسنوات عديدة.