التضخم مشكلة مزمنة. فالكبار عمرا يتذكرون كم كان المستوى العام للأسعار في المملكة (وفي الدول الأخرى) قبل عشرات السنين الماضية، ويعني للكثيرين عقد مقارنات بين مستويات سعرية سابقة، والأسعار السائدة حاليا. وهناك دول أخرى كثيرة شهدت، حتى في العام الواحد، معدلات تضخم عالية، وأحيانا عالية جدا، وصلت إلى أرقام بالمئات والآلاف.
محليا، ظهرت خلال الشهور القريبة الماضية عدة مقالات عن موجة التضخم الأخيرة في عدد من وسائل الإعلام، كما أصدرت مؤسسات مالية تقارير عن التضخم. من أهم هذه الأعمال تحقيق نشر في جريدة الشرق الأوسط، وتقرير سامبا، ومقالة للكاتب في جريدة "الرياض" (1).
كما كانت هناك تعليقات كثيرة في وسائل الإعلام، صادرة من شريحة تمثل عامة الناس. وقد لوحظ أن غالبية هذه التعليقات بنيت على نظرة قوامها قدر كبير من الجهل والتبسيط المخل في فهم أسباب نشوء التضخم، وقد كان الخلط بين التضخم والاستغلال أحد مظاهر ذلك الجهل والتبسيط المخل.
يهدف ملف هذا العدد إلى تبسيط مبادئ التضخم لعموم القراء، مع تركيز الجانب التطبيقي على موجة التضخم التي تشهدها المملكة. الملف يتكون من ثلاثة أجزاء وملحق. الجزء الأول مخصص لإيضاح معنى وتأثير وقياس التضخم. والجزء الثاني عن تفسير التضخم. أما الجزء الثالث الأخير فيناقش سبل مكافحته. الملحق يستعرض سياسات للتعويض عن الغلاء.
الجزء الأٍول: معنى وتأثير وقياس التضخم
معنى التضخم
كلمة تضخم تعني من وجهة علم الاقتصاد وجود أسعار صاعدة للسلع والخدمات (من خبز وكتب وقص شعر وعلاج وملابس وسيارات وأجور عاملين وإيجارات عقارات...إلخ). ومن ثم فإن التضخم يعبر عن عملية الارتفاع المستمر في المستوى العام للأسعار، أو بعبارة مكافئة: الانخفاض المستمر في قيمة النقود. ويعبر إحصائيا عن التضخم بأنه معدل الزيادة في الأسعار خلال فترة زمنية محددة، كالشهر والسنة.
لا تتحرك كل الأسعار بنفس الاتجاه أو نفس النسبة. ومن ثم فإن الأسعار النسبية (نسبة أسعار السلع بعضها إلى بعض) تتغير، على سبيل المثال بعض السلع ترتفع أسعارها بنسبة أعلى من سلع أخرى، وتبعا لذلك لابد من تؤثر توزيع الدخل المنفق على ما ينتج من سلع، كما أن الإنفاق العام يتغير.
نفهم من معنى التضخم أن الارتفاع المؤقت في سعر سلعة ما لا يعد تضخما. كما أن ارتفاع سعر سلعة دون أن يقابله ارتفاع في المستوى العام للأسعار فإن هذا لا يعد تضخما أيضا.
دور وتأثير التضخم في الاقتصاد
ينظر إلى قدر قليل من التضخم (ليس هناك حد متفق عليه، لكن نسبة تقل عن 2% سنويا يعدها كثيرون قليلة) على أن له تأثيرات إيجابية على الاقتصاد.
أحد الأسباب أنه ينظر إليه على أنه ضغط خطر كامن، يعمل على تآكل قيمة النقود، مما يعطي حافزا لأصحاب المدخرات لاستثمارها، بدلا من مشاهدتها تتآكل. ويؤخذ بهذه الحجة عند الدفاع عما يسميه البعض "تمويل التنمية بالتضخم"، والذي يعني التوسع في الإنفاق التنموي بما يتجاوز كفاية الموارد المالية العامة المتاحة، وتمويل العجز بإصدار المزيد من النقود، ومن ثم تتعرض قيمتها للانخفاض.
من الأسباب الأخرى للنظر بإيجابية إلى معدلات التضخم المنخفضة أن المفاوضات على الأجور ليست سهلة، وخاصة عبر خفضها، ومن ثم يكون من السهل للأسعار النسبية (نسبة أسعار السلع والخدمات والأجور بعضها إلى بعض، مثلا كيسة أو رزمة خبز بريال، وجريدة بريالين، وعلى هذا فسعر الجريدة يساوي سعر رزمتي خبز. لو تغير سعر رزمة الخبز إلى ريالين، والجريدة إلى ثلاثة ريالات، فإن السعر النسبي للسلعتين يتغير) أن تتكيف عند وجود زيادة عامة في الأسعار. وبعض الأسعار بطبيعتها صعب نزوله.
المحاولة لجعل الأسعار ثابتة (ربما لمكافحة التضخم) تعاقب المنشآت ذات الأسعار والأرباح والتوظيف الجانحة للانخفاض. مثلا تثبيت أسعار الفنادق أو الشقق المفروشة أو البنزين أو أجور الحلاقة يمنع المؤسسات الأقل مستوى تجهيزاً وخدمة من خفض أسعارها. كما أن المساعي لتحقيق استقرار تام في الأسعار (مثلا عبر دعم بعض السلع) يمكن أن يؤدي إلى عكس التضخم (أي إلى خفض الأسعار)، وهو ما ينظر إليه على أنه ناتج سلبي للتكييف في حركة الأجور، وفي الإنتاج (2).
ويتفاوت تأثر الإنتاج بالتضخم حينما يكون هناك ثبات في تكيف التكاليف مع الأسعار وكميات الإنتاج. وبين بعض الباحثين أن هذا التفاوت يتحدد وفقا لمرونة إيرادات المنشأة بالنسبة للطلب على إنتاجها. كلما زادت هذه المرونة، تأثر الإنتاج سلبا بالتضخم (3).
إلا أن معدلات التضخم التي تزيد عن الحدود المطلوبة للحرية النقدية وحوافز الاستثمار تعد سلبية، بل وقد تكون أثارها مدمرة، عندما تبلغ المعدلات أرقاما أقرب إلى الخيال.
يعمل التضخم على تغيير الأسعار النسبية. ويعمل على دفع الأجور إلى الارتفاع، لكن من الملاحظ أن ارتفاع الأجور يقل في كثير من الأحيان عن ارتفاع الأسعار، مما يعني انخفاض الأجور الحقيقية، وإذا كان انخفاض الأجور الحقيقية عاليا، فهذا نذير سوء لأغلب الناس. فارتفاع الأسعار أكثر من الأجور الحقيقة يعني انخفاض مستوى المعيشة، وازدياد الفقر. مثلا، تتضاعف الأسعار خلال أربع سنوات تقريبا إذا كان معدل التضخم في حدود 20% - يرجى الرجوع إلى الجدول 1- لكن من البعيد جدا أن تتضاعف الأجور خلال هذه السنين.
أصحاب العقارات يربحون جراء التضخم، وكذلك أصحاب الأسهم، وهو ربح وهمي أحيانا، لكن حملة سندات التمويل (أدوات إقراض) في العادة يخسرون، لأن الفوائد أو العوائد التي يتقاضونها، تكون في العادة ثابتة.
ماذا بشأن المقترضين؟ إذا كان حملة سندات التمويل من الخاسرين، فإن المقترضين يستفيدون من التضخم، بالنظر إلى انخفاض القيمة المستقبلية للنقود. وإيضاحا، افترض انك حصلت على 100ريال بطريقة تمويل ما، على أن تعيدها بعد سنة 110ريالات. لو افترضنا أن الأسعار ارتفعت بنسبة 20%، خلال العام، أي أنه أصبح يلزمك 120ريالا لتشتري نفس السلع (من الممكن أن تكون السلع أسهما) التي كنت تشتريها بالمبلغ المقترض 100ريال قبل سنة تقريبا. المقترض، وفق الافتراضات السابقة، استفاد من ارتفاع الأسعار. هذا يفسر لنا ارتفاع العوائد التي تقاضاها بعض الممولين خلال فترة طفرة سوق الأسهم العام الماضي.
باختصار، يعمل التضخم على إعادة توزيع الدخل، من خلال تأثيره على القيمة الحقيقية لثروات الناس.
كما يعمل على خفض الدخول الحقيقة من خلال خفض القوة الشرائية للنقود. ولكن عند حصول زيادة في الدخول (الاسمية)، فإن المحصلة كما يلي:
من ترتفع دخولهم بنسبة تزيد عن نسبة ارتفاع الرقم القياسي يكسبون قوة شرائية أعلى. أما الذين لا ترتفع دخولهم بنسبة تزيد على نسبة ارتفاع الرقم القياسي، فإنهم إما لا يكسبون أو يخسرون (القوة الشرائية لا تتغير أو تنخفض).
والصيغة التالية توضح بالتقريب العلاقة بين التغيرات في الدخل الاسمي (يستعمل هذا التوصيف في علم الاقتصاد كثيرا ليعني الدخل المستلم، وله مسمى آخر هو الجاري) والرقم القياسي والدخل الحقيقي (الذي يعني الدخل الاسمي مراعى فيه التضخم)، (شكل1).
انظر (جدول رقم 1، السنوات اللازمة لمضاعفة الأسعار)
قياس التضخم: الرقم القياسي لتكاليف المعيشة
مقاييس التضخم عديدة، ويبنى أي مقياس على أساس نسبة التغير السنوي في أسعار سلة من السلع والخدمات، تختار حسب الهدف من القياس. وقليلا ما تتغير هذه السلع والخدمات المختارة في السلة، ولذا يعكس القياس التغير (تقريبا) في القوة الشرائية لعملة الدولة خلال سلسة زمنية. ولكل مؤشر سنة أساس = 100، وتتغير سنة الأساس عادة كل عشر سنوات.
في المملكة هناك ثلاثة مقاييس للتضخم تصدرها مصلحة الإحصاءات العامة والمعلومات، وهي الرقم القياسي لأسعار الجملة، ومعامل انكماش الناتج المحلي الإجمالي، والرقم القياسي لتكاليف المعيشة، وهو أهمها. أما الأول فيرصد أسعار السلع كما هي لدى تجار الجملة في المدن الكبرى الثلاث الرياض وجدة والدمام، وينشر دوريا. وأما الثاني فيرصد التغير في أسعار كافة السلع والخدمات المحسوبة في الناتج المحلي الإجمالي. وهناك ثلاثة قطاعات اقتصادية رئيسية هي النفط والحكومة والخاص (غير النفطي)، ولكل منها معامل انكماش، خلاف المعامل العام للاقتصاد كله. وتنشر المصلحة هذا المؤشر سنويا ضمن بيانات الناتج المحلي الإجمالي.
المقياس الثالث، وهو الأهم، يقيس التغيرات في أسعار سلة ثابتة من السلع والخدمات التي يرى أنها تمثل استهلاك غالبية الناس. وتصدر المصلحة هذا المؤشر شهريا تحت اسم "الرقم القياسي لتكاليف المعيشة". وهذا الرقم القياسي متاح في موقع المصلحة، وفي موقع مؤسسة النقد العربي السعودي عن الفترة منذ عام 1999م. أما بيانات السنوات السابقة منذ سنة 1968فمخزنة لدى كاتب هذه السطور إلكترونيا، ومصادرها تقارير مؤسسة النقد السنوية، وIFS الصادرة من صندوق النقد الدولي.
يتناول المؤشر مئات السلع والخدمات الموزعة على ثمان مجموعات رئيسية (الجدول 3يظهر أسماء هذه المجموعات)، وفي داخل كل مجموعة رئيسية بضع مجموعات فرعية. ولكل مجموعة رئيسية نسبة مئوية (وزن نسبي) في تركيب المؤشر، تم تبنيه اعتمادا على نتائج مسوحات إحصائية تجريها المصلحة عن الوزن النسبي للصرف على تلك الفئة لدى غالبية العوائل. مثلا، إذا أظهر المسح الإحصائي أن نسبة 12% من الدخل تذهب للطعام والشراب، فإن فئة الطعام والشراب تعطى وزن 12%. وتوزيع الأوزان في المؤشر قابل لأن يتغير، لكن من النادر أن يطال التغيير المؤشر كل سنة، ولكن كل عدة سنوات. وتعد الإيجارات (السكنية) البند الأكثر أهمية في الرقم القياسي.
وقد خضع الرقم القياسي لتكاليف المعيشة للتطوير المستمر على مدى السنوات الثلاثين الماضية، آخرها، حسب موقع المصلحة، كان في عام 2001م. زيد عدد البنود المختارة (عدد السلع والخدمات) والداخلة في تركيب الرقم القياسي إلى 406بندا (بزيادة 100% تقريبا)، وقد تمت الزيادة على أساس مسح الإنفاق الاستهلاكي الذي أجري عام 1999م. من التعديلات التي أحدثت في عام 2001التوسع في نطاق التغطية الإقليمية من 10مدن إلى 16مدينة، وتحديث الأوزان النسبية (4) كما أجرت المصلحة تطويرا في الأساليب الفنية المتبعة في الميدان وفي المعالجة.
وفي كل الأحوال، فأول خطوة في إنتاج الرقم القياسي تكون بجمع المعلومات عن أسعار سلة بنود بعينها دوريا حسب فترات إصدار المؤشر (عادة كل شهر) من محلات التجزئة ومالكي المنازل والمستأجرين وفقا لمنهجية مرتبة مسبقا، بحيث تمثل سلة السلع والخدمات ما تشتريه عائلة افتراضية تمثل غالبية عوائل المجتمع.
وبعد الجمع، تجرى عمليات احتساب الرقم القياسي، عبر أكثر من طريقة إحصائية. الإطار 1يعرض مثالا يبسط خطوات احتساب المؤشر.
إطار : 1مثال مبسط لكيفية احتساب الرقم القياسي
هناك أكثر من طريقة إحصائية لحساب الرقم القياسي أو المؤشر، وكل طريقة لا تخلو من تفصيلات وصعوبات. سأعرض مثالا يبسط خطوات احتساب المؤشر، وكيف يقاس التضخم، كما هو موضح في الجدول (2) افترض نمطا استهلاكيا يقوم على استهلاك ثلاث سلع: لحم ووقود وملابس.
انظر جدول 2: مقارنة مصروفات مستهلك افتراضية بين عامي 2000و2006م
منذ أواسط عقد الستينات الميلادية، كانت المصلحة تنتج مؤشرا يقيس أسعار السلع عند ذوي الدخل المتوسط، وفق تعريف مصلحة الإحصاءات، إلا أنها أوقفت هذا المؤشر منذ سنوات (5) وحل بدلا منه المؤشر الحالي الذي يعكس تغير تكاليف المعيشة لجميع السكان. بدأ إصدار هذا الرقم الجديد منذ عام 1979، وبياناته يبينها الجدول (2).
الارتباط الإحصائي correlation بين المؤشرين يصل إلى 99%، ويرى كثير من الباحثين أن هذا الارتباط العالي القيمة يسمح بدمج السلسلتين كما لو كانا سلسلة واحدة، وهذا ما فعلته، حيث دمجت بيانات الرقمين الجديد والقديم، لإخراج سلسلة موحدة عن معدلات التضخم موضحة في الشكل (1)
انظر جدول 2: الرقم القياسي لتكاليف المعيشة لجميع السكان
استعراض موجة التضخم الحالية استنادا إلى الرقم القياسي
يظهر الجدول 3والشكل 1أن المملكة شهدت أربع موجات تضخمية رئيسية منذ سبعينات القرن الميلادي الماضي: 19771974،و1980-1983و 19961988و 2003فصاعدا. ورغم تفاوت معدلات التضخم سواء بين الفترات، أو في نطاق كل فترة، كانت معدلات التضخم في الموجة الأولى أعلى بكثير من معدلات بقية الموجات (6).
ويظهر الجدول 3والشكل 1أن موجة التضخم الحالية بدأت منذ عام 2003، لكن الأسعار كانت تزيد بمعدلات منخفضة، أقل من 1% خلال الفترة 2003منتصف2005، ثم تسارعت بعد ذلك لتصل 2.2% خلال عام 2006.أما في مطلع عام 2007، فقد كان معدل التضخم (الشهري) في يناير 0.9%، و- 0.6% في فبراير، أي أن المستوى العام للأسعار انخفض بين يناير وفبراير بنسبة 0.6%. يرجى الرجوع إلى الجدول (4).
الزيادة لم تكن متماثلة أو حتى متقاربة بين المجموعات خلال السنوات الثلاث الأخيرة. فقد كانت الزيادة في أسعار الأطعمة والسلع والخدمات الأخرى هي الأعلى، وعلى العكس، فقد شهدت مجموعات الملابس والنقل والاتصالات انخفاضا في السعر، كما يبين ذلك الجدول (5) والشكل (2) ويبدو أننا نفهم سبب الانخفاض في أسعار الاتصالات (مثلا دخول منافس)، ولكننا لا نفهم سبب انخفاض أسعار الملابس.
ومن المهم أن أشير إلى أنه أعيد بناء بيانات الرقم القياسي القديم (المبني على أساس متوسط الدخل) لتوحيد سنة الأساس.
خارج نطاق الرقم القياسي، أصدرت وزارة التجارة والصناعة تقريرها ربع السنوي عن أسعار السلع الغذائية الأساسية والتموينية خلال الربع الأول لعام 1428(يعادل تقريبا الربع الأول من عام 2007). وأوضح التقرير أن هناك انخفاضا في أسعار سلع، وارتفاعات في أسعار سلع. أهم هذه السلع والتغيرات على أسعارها مبينة في الجدول (6).
انظر جدول 3: الرقم القياسي ومعدلات التضخم السنوية للأسر السعودية المتوسطة الدخل ولكل السكان خلال الفترة - 20061970م
انظر جدول (4) الرقم القياسي ومعدلات التضخم الشهرية لكل السكان خلال الفترة اكتوبر 2006م - سبتمبر 2007م
انظر (غراف) شكل 1معدلات التضخم خلال السنوات 1970- 2006م
انظر جدول: (5) معدلات التضخم * (لكل السكان) حسب المجموعات الرئيسية خلال الفترة 1980-2006م
انظر شكل: (2) معدلات التضخم حسب كل مجموعة خلال الفترة 1999-2006م
*متخصص في الاقتصاد الكلي والمالية العامة بكالوريوس في الشريعة، دكتوراه في الاقتصاد