مرت سوق العقارات السعودية بفترات متفاوتة من الشدة والرخاء والركود والازدهار نتيجة لجملة من المعطيات المعقدة والمتغيرة والمتشابكة فيما بينها.
والمتابع لتلك التطورات الجوهرية التي طرأت على ذلك السوق خلال العقود الماضية يدرك أهمية التحول الكامل الذي مر به هذا القطاع حيث اشتركت في تحويله عدد من المعطيات السياسية والاقتصادية والسكانية والعوامل الداخلية والخارجية.
وقد كان من أهم تلك المعطيات التي تسيطر على حركته الفكر الذي يدار به هذا النشاط والزاوية التي ينظر إليه منها.
إلا أن تطور ذلك الفكر بتحول النظرة إلى هذا القطاع على أنه قطاع صناعي عظيم يحسن لاعبوه لعب أدوار البطولة فيه أسهم وبشكل فاعل وسريع في تطوره وازدهاره.
فمن كونه قطاعا استهلاكياً ثم ادخارياً ثم استثمارياً، إلى أنه صناعة تتطور مع تطور الأيام بمفاهيمها وأدواتها وأهدافها.
كما نتج عن هذه الصناعة خلق أدوات جديدة وفرص واعدة وقيام تحالفات وتكتلات اقتصادية تعدت كونها شركات محلية إلى شركات عملاقة يشار إليها بالبنان في أرجاء العالم.
وكانت النظرة إلى "العقار" بمفهومه الضيق آنذاك (أرض، منزل) ـ من دون إغفال للمؤسسات والشركات الرائدة في الاستثمار العقاري منذ ذلك الوقت - تقتصر على كونه سلعة استهلاكية معمرة يسعى رب الأسرة لتوفيرها لأسرته كباقي السلع الاستهلاكية الأخرى غير أن هذه السلعة تعد أطول السلع عمراً، وقد ساعدت الظروف المحيطة بتلك الحقبة على ترسيخ تلك النظرة؛ فبفعل انخفاض أسعار العقار في ذلك الوقت الذي جعله سلعة سهلة الحصول عليها بالتملك أو الإيجار ولضعف مردوده الاستثماري وما لقيه من دعم حكومي بتوفير أراضي المنح المجانية وما وفرته الدولة من القروض الميسرة المعدومة الفوائد (صندوق التنمية العقاري ) وحيث إن أعداد السكان في ذلك الوقت كانت محدودة والدورة الاقتصادية لم تكن كما هي عليه الآن فقد كان الاهتمام بالعقار ضعيفاً.
فترات ركود وانتعاش
مع تطور الاقتصاد ومروره بدورات ركود وانتعاش فقد تطور النظر إلى العقار بأن أصبح ينظر إليه بأنه وعاء لحفظ المال من الضياع أو الخسارة وأنه مهما طرأ عليه من انخفاض في قيمته فإنه قادر على تعويضها خلال فترة قصيرة فضلاً عن أنه خال من أية تكاليف.
ولكن بفعل التغيرات التي طرأت على الهيكلة الاقتصادية من زيادة عدد السكان وتزايد الهجرة الريفية إلى المدن الكبرى وتزايد الحركة الاقتصادية وتناميها واكبتها زيادة في أسعار النفط وتحول المملكة إلى وجهة للمستثمرين من كل أنحاء العالم تتزاحم عليها كبرى الشركات العالمية للفوز بحصة الاستثمار بها والنفاذ إلى أسواقها وإقامة الشراكات الاستراتيجية مع شركاتها فقد زادت أسعار العقار بفعل زيادة الطلب عليه وتحولت النظرة إلى هذا القطاع إلى كونه قطاعا استثماريا مربحا يدر على المستثمرين فيه عوائد كبيرة.
احتلت السوق العقارية القطاع الاقتصادي الثاني في البلاد بعد قطاع النفط، حيث يقدر حجمه بمليارات الريالات وتميز بضخامة الاستثمارات فيه وقدرته على استيعاب الرساميل الضخمة، ولما يتميز به هذا القطاع عما سواه بأنه أكثر استقراراً وأماناً بخلاف القطاعات الأخرى التي تحتوي على نسب من المخاطرة تكاد تكون أعلى منه.
ظهور المساهمات العقارية
في وقت سابق للطفرة الاقتصادية الحالية ظهرت المساهمات العقارية كوسيلة وحيدة لتمويل المشاريع العقارية، كما أنها قناة لتنمية وتوظيف الصناديق الاستثمارية التي تنمو من خلال تطوير المشاريع ومن ثم بيعها وتحقيق الربح المادي، الأمر الذي يحقق التنمية من خلال تحقيق عوائد ربحية للمستثمرين المساهمين في تلك المساهمات، وتحقيق التنمية العقارية من خلال تطوير مشاريع مختلفة كمشاريع الأراضي والإسكان والمشاريع التجارية والاستثمارية.
تلك المساهمات العقارية التي كانت وعاءً استثماريا يقدم خدمة التمويل للمشاريع وخدمة استثمارية للمستثمرين، كانت المنفذ الوحيد للمطورين العقاريين لتنمية العقارات، سجل خلالها العديد من الإيجابيات والسلبيات، الأمر الذي تسبب في تحقيق كثير من الأرباح وضياع كثير من الأموال، في آن واحد، كما عمل على تعليق الأراضي من جانب، وتطوير مشاريع عملاقة من جانب آخر.
ومع التطور الذي شهدته السوق العقارية من خلال تطوير أعمال الجهات العقارية التي تحولت من مكاتب عقارية إلى شركات ضخمة عمل العقاريون على تطوير وعاء المساهمات العقارية، وبالتحديد في عام 1996، حيث تم طرح عدد من المساهمات العقارية بأسلوب جديد من خلال إصدار شهادات موثقة من غرف المناطق، في حين استخدمها عدد من الدخلاء على السوق لجمع الأموال للمضاربة فيها خاصة في سوق الأسهم، مما أدى إلى تعثر بعض المساهمات العقارية.
جهود وزارة التجارة
على الرغم من سعي وزارة التجارة والصناعة إلى تقييد المساهمات العقارية من خلال شروط تنظمها، إلا أن ذلك لم يسعف المساهمين، خاصة الصغار منهم، لضمان أموالهم لدى عدد من الشركات العقارية، الأمر الذي أدى إلى توقف المساهمات العقارية وتوقف الوزارة عن إصدار تراخيص منها.
يأتي ذلك نظراً لما شهدته المساهمات العقارية من تعثر ومشاكل بين المساهمين والقائمين على عدد من المساهمات، الأمر الذي دفع الحكومة السعودية لتحويل الإشراف على المساهمات العقارية إلى هيئة السوق المالية لأحكام المساهمات العقارية وتحويلها إلى نظام مؤسساتي يخدم الجانبين المالي والعقاري من خلال نظام صارم وواضح يدفع السوق إلى مزيد من الاحترافية والشفافية والتنظيم الواضح لحفظ حقوق المساهمين.
أما الصناديق العقارية فهي حديثة العهد بلوائحها وأنظمتها وإن كانت امتداداً للنهضة العقارية التي شهدتها سوق المساهمات العقارية.
من هنا أتى الاهتمام البالغ والكبير من قبل صانع القرار بإعطاء الاستثمار العقاري الحق الذي يليق به حيث إنه قطاع اقتصادي حيوي ومؤثر في الاقتصاد الوطني.
واستعرضنا في الأسبوع السابق اللائحة التنظيمية للصناديق العقارية والصادرة عن هيئة السوق المالية.
الشركات العقارية
أما عن الشركات العقارية فقد لمع نجم عديد منها والتي تعد اليوم من أرقى بيوت الاستثمار العقاري لما تتمتع به هذه الشركات من خبرة عميقة في إدارة المشاريع العقارية ولبعد نظرها في استكشاف الفرص الاستثمارية وجودة التنقيب عن مصادر الدخل وحسن إدارة الأصول.
هذه الشركات كانت ومازالت تدار بعقلية الاستثمار الراسخ والثقة المطلقة بمستقبل واعد للقطاع العقاري، هي التي استفادت من الطفرات العقارية المتلاحقة واستطاعت من خلال تخطيطها الجيد وبعد نظرتها لما سيؤول إليه القطاع العقاري خصوصاً وللاقتصاد الوطني بشكل عام وهي التي تشارك اليوم في تنمية النهضة العقارية وتقطف ثمارها هي ومن ساهموا معها.
وتميزت هذه الشركات بأن أصحاب القرار فيها كانوا يديرون أعمالهم العقارية بفكر عقاري سبق زمانهم بسنوات عدة.
7 شركات للتطوير العقاري
أما عن الشركات المساهمة التي تعمل في التطوير العقاري فقد بلغ عددها سبع شركات مدرجة في سوق المال السعودية فقط يعود أقدمها إلى عام 1976 وهي الشركة العقارية السعودية التي أسست برأسمال 1.200.000.000 ريال تلتها شركة طيبة عام 1988 برأسمال 1.500.000.000 ريال ثم شركة مكة عام 1989 برأسمال 1.648.162.400 ريال وشهد عام 1994 تأسيس شركتين هما شركة الرياض للتعمير برأسمال 1.500.000.000 ريال وشركة دار الأركان برأسمال 5.400.000.000 ريال إلا أنها لم تدرج في السوق السعودية إلا في نهاية عام 2007.
ولم تشهد السوق السعودية من ذلك الوقت دخول أي شركات مساهمة جديدة حتى عام 2006م الذي شهد تأسيس شركة إعمار المدينة الاقتصادية برأسمال 8.500.000.000 ريال ثم إشهار تأسيس شركة جبل عمر في نهاية عام 2007م وبرأسمال 6.714.000.000 ريال. ونلاحظ الفجوة الزمنية التي كانت ما بين عامي 1994 و2006.
أما اليوم وبعد أن تحول القطاع إلى قطاع ناضج يسعى دائما إلى زيادة الإبداع والتخصص فقد رأينا الشركات الكبرى ذات الرساميل الضخمة تتخصص في التطوير العقاري كتخصص في هذا القطاع ويتخصص غيرها في التمويل العقاري وهكذا.
ومن أهم هذه الإبداعات تطور وازدهار المعارض العقارية - من حيث عدد المشاركين والزائرين من جهة ومن حيث اجتذابها الشركات العالمية من جهة أخرى - والتي أصبحت اليوم الملتقى الأول للشركات العقارية تبرم فيها أكبر الصفقات وتلتقي فيها المصالح وتقام بداخلها التحالفات فضلاعن أنها وسيلة تسويقية ممتازة للشركات العقارية والمالية على حد سواء.
التمويل العقاري
أما التمويل العقاري وما يشهده من تطور سواء في حجم عمله أو فيما ينتظره من إقرار التشريعات الخاصة به إلا أنه في نمو يعتبر بطيئا وتزاوله عدد من المؤسسات المالية والعقارية.
كما نشط في الآونة الأخيرة عمل التثمين العقاري وهو بحاجة إلى كثير من الحرفية والخبرة والمهارة ولا يمارسه إلا أهل الإتقان والصنعة.
وبالنسبة للمستقبل العقاري التشريعي فإنه من المنتظر إقرار كثير من التشريعات والتنظيمات ومن أهمها قانون الرهن العقاري، الذي هو عبارة عن نظام متكامل ينظم العلاقة بين المستثمر والممول والمطور العقاري والمستفيد بشكل يمكنهم جميعاً من تحقيق أهدافهم في دورة مالية متكاملة يمكن إعادة تدويرها وتكرارها باستمرار وتساهم مساهمة فعالة في تنمية القطاع الإسكاني وضبط التوازن بين المعروض والمطلوب، كما يمكن استخدامها كنظام دفاعي للنظام المالي تمكنه من استيعاب أي صدمات مالية تحدث في أسواق المال أو في الاقتصاد الوطني.
ويستطيع هذا النظام بفضل مرونته أن يتيح للمشتري شراء المسكن الملائم له في حالته الراهنة بضمان دخله الشهري وفي الوقت المناسب له، وذلك بشرائه وحدة سكنية صغيرة (تناسب حجم أسرته ودخله) إذا كان في بداية حياته أو كان دخله منخفضا وبمرور الوقت وتزايد دخله وأفراد عائلته فإنه يستطيع تغيير مسكنه ويسمح له نظام الرهن العقاري بذلك فينتقل إلى سكن أكبر، أما في حالة العكس فان النظام يسمح له مرة أخرى باستبدال السكن الكبير بسكن صغير يناسب أسرته الصغيرة أو دخله المنخفض، وهكذا يصبح الحصول على السكن شاملا نظام ادخار واستثمار كقيمة مضافة له.
وما يتطلبه نظام الرهن العقاري هو وجود نظام توثيق صارم يضمن بمنتهى الحجية عدم تداخل الملكيات وانتفاء أي نزاعات في المستقبل، وهذا يتطلب بالتبعية النظر في أحوال السجل العيني وواقعه وكيف يمكن تطويره وإصلاحه ليواكب ما تدرسه الحكومة السعودية هذه الأيام من تشريعات جديدة في هذا الاتجاه.
نظام الرهن العقاري
وبذلك فإن إصدار نظام الرهن العقاري الذي ينتظر المستهلكون صدوره بفارغ الصبر، من أجل أن يتخلصوا فعلاً من كابوس الإيجارات المزعج الذي لا يستفيد منه سوى طرف واحد فقط، بينما في حالة صدور النظام فإن الجميع سيربح ولن تذهب أموال المستأجرين سدى كما هو حاصل اليوم، بل إنها ستتحول إلى أصول رأسمالية تشكل رقماً مضافاً في الاقتصاد وإجمالي الناتج المحلي، فليس من يدفع إيجارات بقيمة مليون ريال في 20 سنة إيجار كمن وضع المبلغ نفسه في أقساط تذهب لصالح منزل اشتراه.
ذلك مع إنشاء هيئة عقارية متخصصة يسند إليها تنظيم السوق العقارية في المملكة من خلال إصدار الأنظمة واللوائح المنظمة لعمل السوق العقارية بشكل عام وتيسير الإجراءات للمستثمرين وحفظ حقوقهم، إضافة إلى توفير قاعدة معلومات عقارية وفق أسس علمية من خلال الأبحاث والدراسات المتخصصة عن القطاع العقاري وبما يساعد على تحقيق الوضوح والشفافية لسوق العقارات في المملكة، الذي من المنتظر أن يغير كثيرا في سوق التمويل العقاري.
الخلاصة
إن تطور الفكر العقاري ونضوج العقلية التي يدار بها القطاع ووعي أعمق للمستثمرين وما سيصاحبه من وجود الأنظمة والتشريعات يعطي السوق العقارية أماناً وطمأنينة أكثر وكأنه صانع سوق يمنع تكون فقاعة سعرية قد تفضي به إلى انهيارات مالية كالتي حدثت في سوق الأسهم. وكان من أهم أسبابها غياب صانع السوق.