وعلى جانب الاقتصاد الحقيقي، نستطيع أن نجزم بأن البلدان المتقدمة اقتصادياً كافة ـ التي تشكل 55 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي ـ دخلت في حالة من الركود حتى قبل الصدمات المالية الهائلة التي بدأت في أواخر هذا الصيف. وهذا يعني أن البلدان المتقدمة اقتصادياً أصبحت الآن تعاني الركود الأزمة المالية الحادة، والأزمة المصرفية الحادة.
لم ترتبط الأسواق الناشئة في مستهل الأمر بهذه المحنة إلا حين بدأ المستثمرون الأجانب في سحب أموالهم ثم انتشر الذعر إلى أسواق الائتمان، وأسواق المال، وأسواق العملة، الأمر الذي يسلط الضوء على نقاط الضعف التي تعانيها الأنظمة المالية والقطاعات الشركاتية في عديد من البلدان النامية، التي شهدت ازدهاراً ائتمانياً فبالغت في الاقتراض وبالعملات الأجنبية. أما البلدان التي تعاني عجزا ضخما في الحساب الجاري أو عجزا ماليا ضخما، أو الملتزمة بديون ضخمة قصيرة الأمد بالعملة الأجنبية فهي أكثر البلدان هشاشة في هذه الأزمة. ولكن حتى البلدان ذات الأداء الأفضل ـ مثل البرازيل، روسيا، الهند، والصين ـ أصبحت الآن عُـرضة للسقوط. كما أصبح عدد كبير من الأسواق الناشئة الآن عُـرضة للأزمات المالية الحادة.
إن أسباب هذه الأزمة ترجع إلى أضخم فقاعة أصول وأضخم فقاعة ائتمان يشهدها التاريخ. ولم تكن الفقاعات والمبالغة في استخدام الروافع المالية مقتصرة على أسواق الإسكان في الولايات المتحدة فحسب، بل امتد الأمر إلى أسواق الإسكان في بلدان أخرى. فضلاً عن ذلك، وبعيداً عن أسواق الإسكان، فقد أصبح الانغماس في الاقتراض من جانب المؤسسات المالية وبعض شرائح الشركات والقطاعات العامة من الأمور المعتادة في عديد من البلدان. ونتيجة لهذا فقد أخذت فقاعات الإسكان، فقاعات الرهن العقاري، فقاعات الأسهم، فقاعات السندات، فقاعات الائتمان، فقاعات السلع الأساسية، فقاعات الأسهم الخاصة، وفقاعات صناديق الوقاء، في الانفجار في كل مكان وفي الوقت نفسه.
أما الوهم المضلل الذي ساد بين الناس والذي أوحى لهم بأن الانكماش في الولايات المتحدة وغيرها من البلدان المتقدمة اقتصادياً سوف يكون قصيراً وضحلاً ـ ولن يتجاوز الستة أشهر ـ فقد ولّى الآن ليحل محله اليقين بأن الركود سوف يكون طويل الأمد، وربما يدوم مدة عامين على الأقل في الولايات المتحدة وما يقرب من عامين في بقية بلدان العالم. ونظراً للخطر المتصاعد المتمثل في حدوث انهيار مالي عالمي شامل، فلا يسعنا أن نستبعد حدوث ركود عالمي قد يدوم لعقد من الزمان ـ كذلك الذي شهدته اليابان بعد انفجار فقاعتي العقارات والأسهم لديها.
الحقيقة أن الفجوة المتنامية بين التحركات السياسية المتزايدة العنف والأضرار الهائلة التي لحقت بالأسواق المالية أصبحت مخيفة فحين تمت عملية إنقاذ المودعين لدى بنك بير شتيرنز بما قيمته ثلاثين مليار دولار أمريكي في آذار (مارس) الماضي، استعادت أسواق الأسهم والمال والائتمان نشاطها لمدة ثمانية أسابيع. وحين أعلنت وزارة خزانة الولايات المتحدة إنقاذ عملاقي الرهن العقاري فاني ماي وفريدي ماك في تموز (يوليو) استمر استرجاع النشاط لمدة أربعة أسابيع فقط. وحين تعهدت حكومة الولايات المتحدة بدفع مبلغ 200 مليار دولار لإنقاذ هذه الشركات وتحمل ديونها التي بلغت ستة تريليونات دولار، لم تدم حالة استعادة النشاط إلا ليوم واحد.
وحتى الإعلان عن الإجراءات الأخيرة التي تبنتها الولايات المتحدة وأوروبا، لم نشهد ما يشير إلى استعادة النشاط على الإطلاق. وحين تم إنقاذ بنك AIG بمبلغ 85 مليار دولار هبطت السوق بنسبة 5 في المائة ثم حين وافق الكونجرس على حزمة الإنقاذ التي بلغت 700 مليار دولار هبطت الأسواق بنسبة 7 في المائة أخرى خلال يومين. ومع اتخاذ السلطات في الولايات المتحدة والخارج خطوات جذرية أثناء الفترة من السادس إلى التاسع من تشرين الأول (أكتوبر)، واصلت أسواق المال والائتمان الهبوط يوماً بعد يوم.
تُـرى هل كانت الإجراءات الأخيرة كافية؟ حين لا توفر الإجراءات السياسية راحة البال الحقيقية للمساهمين في الأسواق فعليك أن تدرك أنك أصبحت على بعد خطوة واحدة من الانهيار الشامل للقطاعين المالي والشركاتي، وأن الانزلاق إلى حلقة مفرغة من محاولات الإصلاح وهبوط أسعار الأصول بات أمراً محتماً.
لا نستطيع إذاً أن نستبعد الإخفاق الشامل والركود العالمي. وكما شهدنا أثناء الأيام الأخيرة، فإن الأمر يتطلب تغييراً ضخماً في السياسات الاقتصادية، فضلاً عن العمل المنسق بين الأسواق المتقدمة والناشئة كافة لتجنب الكارثة. وهذا يتضمن:
- جولة أخرى سريعة من تخفيض أسعار الفائدة بمقدار لا يقل عن 150 نقطة أساسية في المتوسط على مستوى العالم.
- تقديم ضمانة مؤقتة لكل الودائع والعمل على التمييز بين المؤسسات المالية المفلسة التي لا مفر من إغلاقها والمؤسسات المتعثرة ولكنها قادرة على الوفاء بديونها, التي ينبغي تأميمها جزئياً ومنحها قدراً من رأس المال العام.
- التخفيض السريع لأعباء الديون المتراكمة على الأسر العاجزة عن سداد أقساط ديون الرهن العقاري، على أن يسبق ذلك تجميد مؤقت لكل عمليات حبس الرهن العقاري.
- توفير كميات هائلة وغير محدودة من السيولة النقدية للمؤسسات المالية القادرة على الوفاء بديونها.
- توفير أرصدة الائتمان للأقسام القادرة على السداد من قطاع الشركات من أجل تجنب أزمة إعادة تمويل الديون قصيرة الأمد للشركات القادرة على السداد ولكنها تفتقر إلى السيولة النقدية.
- توفير الحوافز المالية المباشرة من جانب الحكومة، على أن تتضمن هذه الحوافز الأشغال العامة، الإنفاق على البنية الأساسية، فوائد البطالة، إعادة رد الضرائب للأسر ذات الدخول المتدنية، وتقديم المنح المالية للحكومات المحلية المفتقرة إلى المال.
- الاتفاق بين الدول الدائنة التي تتمتع بفائض في حساباتها الجارية والبلدان المدينة التي تعاني عجزا في الحساب الجاري على التمويل المنتظم لهذا العجز وإعادة تدوير الفوائض لدى الدول الدائنة لتجنب محاولات الضبط غير اللائقة لمثل هذا الخلل في التوازن.
إن التقاعس عن الوفاء بأي من هذه المتطلبات الجذرية والتحركات المنسقة قد يؤدي إلى سقوط الأسواق، انهيار النظام المالي العالمي، وانتشار الكساد في مختلف أنحاء العالم. ونستطيع أن نعتبر الإجراءات التي اتخذتها الولايات المتحدة وأوروبا مجرد بداية. والآن لا بد من إكمال المهمة.
أستاذ علوم الاقتصاد لدى كلية شتيرن للتجارة في جامعة نيويورك، ورئيس مرقب RGE للاقتصاد العالمي.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2008.