ارتفاع أسعار مواد البناء لمعدلات فلكية خلال أقل من عام يدعونا للتساؤل ما إذا كان هذا الارتفاع سيستمر على أنه ظاهرة عالمية ويواصل الارتفاع في الغلاء أكثر وأكثر. وهذا ليس بغريب علينا فمن كان يتوقع ارتفاع أسعار البترول؟ لقد كان معالي وزير البترول السابق يصرح بأن أسعار برميل البترول لن تتعدى 8 إلى 12 دولارا للبرميل. واليوم قاربنا سعر 150 دولارا للبرميل. وبالطبع عندما يرتفع سعر أي من مواد البناء أو البضائع فإنه عادة لا يتراجع إلا قليلاَ. ليصبح المثل المعروف ما طار طير وارتفع إلا كما طار سيطر أكثر. على أي حال وجه المقارنة بين ارتفاع أسعار البترول ومواد البناء أنه عادة كلما ارتفعت أسعار السلعة أصبح هناك اهتمام أكبر بالبحث عن بدائل ويصبح التنقيب عنه أكثر جاذبية لكثير من الدول لذلك فإننا أمام ظاهرة ارتفاع أسعار مواد البناء يجب علينا أن نفكر ملياَ في بدائل أخرى للبناء. ولعل أكثر تلك المواد التي يجب أن نعيد التفكير فيها العودة لمواد البناء الطبيعية، التي تتواجد على أراضينا وتطوير أنظمة البناء القديمة مثل الحوائط الحجرية والأسقف المصنوعة من بعض المرابيع الخشبية وفوقها حصيرة ثم صبة أسمنتية أو استعمال الطوب الطيني وأن ندفع مرتبات وأجور أتعاب البناء لابناؤنا بدل العمالة الأجنبية وبذلك تدور أموالنا بيننا.
بالطبع هذه الأنظمة قديمة ويجب تطويرها باستعمال مواد عزل حديثة سواء عزل مائي أو حراري. وهي أنظمة ليست حكراَ علينا بل هي تستعمل في كثير من دول العالم. وتقوم معظم الدول بتطوير البحث العلمي في هذا المجال، خاصة أبحاث عن البناء بمادة الطين. وتعتبر ألمانيا من الدول التي بذلت مجهودا كبيرا في ذلك. وكذلك بعض الولايات الصحراوية الحارة في الولايات المتحدة الأمريكية مثل ولايتي أريزونا وتكساس. كما أننا الآن أصبحنا بعد أن ننتهي من البناء وندفع المبالغ العالية نعود لنضع تلك المرابيع كأشكال وديكورات جبسية ونعتقها لتصبح مثل الطبيعية فلماذا لا نعود للأصل ومن دون تكلفة؟
وهذه الأنظمة تقع تحت مسمى البناء بالحوائط الحاملة. وهي حوائط قوية لا تحتاج إلى أعمدة خرسانية أو قواعد وميدات وصبات خرسانة مسلحة بل إن القواعد تبنى من الحجارة. ولكنها لا تصلح للبناء لمساحات عريضة أو مسافات كبيرة بين الحوائط الحاملة إلا باستعمال بعض الأجزاء الإنشائية الحديدية أو الخرسانة المسلحة. ولكنها مناسبة جداَ للمباني السكنية والتجارية التي بها وحدات لا يتعدى عرضها أربعة أمتار في اتجاه واحد بينما الاتجاه الآخر قد يطول قدر ما يشاء. لذلك فهي حل جيد كبديل لبناء إسكان ذوي الدخل المحدود والمتوسط، خاصة الوحدات السكنية الصغيرة. وكذلك للمباني التي ليس فوقها ادوار أو أثقال أخرى مثل الأسوار والأحواش والمستودعات المكشوفة والمزارع.. وأسوار المطارات والجهات الرسمية.
ولعلني أذكر الجميع بأشهر مثال عليها وهو مباني أرامكو وسكن طلاب جامعة الملك فهد القديم في الظهران والتي كان أبي رحمه الله من الذين عملوا في بنائها بالحجارة منذ أكثر من نحو 60 عاماَ ومازالت قائمة. والبناء بالطين والذي مازلنا نعيشه في معظم قرانا. ونعيش الحديث منه في الأحياء التي قامت الدولة بتطويرها في الحي الدبلوماسي ومركز الملك عبد العزيز التاريخي.
البناء بالحجارة والطين يمكن استعماله أيضا لكمية كبيرة من الأسوار التي تملأ مدننا والتي نبنيها من الخرسانة المسلحة للسور والأعمدة والقواعد والميدات واللياسة والدهان بينما أكثر شيء يمكن التوفير فيه في الوقت الذي يعطي شكل الحجارة مظهره الجميل ومن دون تكلفة اللياسة والدهانات لذلك فالبناء بالحجارة أو البلوك الطيني هي أكثر مناسبة وتوفيرا في الحوائط التي ليس فوقها أحمال مثل الأسوار للمنازل والاستراحات وهي تمثل حجما كبيرا من استهلاكنا للبناء في المملكة سواء للسكن الخاص أو مشاريع الدولة المتعددة.
الأحجار يمكن استعمالها لكثير من الأرصفة والمشايات والبلكونات ولا تحتاج إلى أسمنت وحديد بل يمكن أن تدك الأرض جيداَ ثم ترص الأحجار فوقها. وإن كانت للمشاة فهي تكون أقل سماكة بينما ممرات السيارات تكون أكثر سماكة. ولماذا نستغرب فنحن نرى معظم الطرق في أوروبا وعواصمها مرصوفة شوارعها وأرصفتها بالحجارة. وهذا فيه وفر كبير للأسمنت والبلاط الذي نستورد مواده وآلياته من الخارج.
كثير من مواد البناء والأنظمة الكهربائية والميكانيكية يمكن أن نطورها ونوفر فيها كثيرا ولكننا لا نصرف كثيراَ على البحث العلمي للمواد التي يمكن أن توفر لنا كثيرا والتي يمكنها أن تتحمل ظروفنا الجوية القاسية.
وأكبر مثال هو أننا ولأكثر من 50 سنة ما زلنا بدائيين في صناعة المكيفات الصحراوية، التي يجب أن يقوم أصحاب تلك المصانع وبدعم أيضا من الدولة ومراكز الأبحاث لتطويرها وبحيث يصغر حجمها باستعمال قطع غيار حديثة وأكثر قدرة على امتصاص الماء وتمرير الهواء مثل راديتر السيارات وبحيث يتم استبدال الأوجه الثلاثة الحالية للصندوق القديم بوضع شرائح مترادفة خلف بعضها بعضا واستحداث صمامات أو أبواب يمكن غلقها لكيلا يدخل الهواء والغبار للمنزل أثناء استعمال الجهاز أو حتى وهو غير شغال. والأهم أن يتم دراسة نظام جيد لتنقية الهواء الخارج أو الداخل من الجهاز من الغبار الذي أصبح يملأ منازلنا. ولا ننسى في هذا المجال تطوير الملاقف، التي كانت من الأنظمة أو الرموز التراثية والتي كانت تستعمل فوق المنازل للتبريد عبر تلقفها الهواء وتمريره لداخل المبنى، وكذلك فكرة الفناء الداخلي للتهوية الطبيعية. وكلها أفكار قد نستطيع تطويرها لو أخلصنا النية وتركنا الكسل الفكري.
نحن نسرف في استعمال مواد البناء ومساحات مبانينا وحتى في استهلاك الكهرباء والماء. ونبني لإرضاء أو كسب إعجاب الآخرين أو التنافس العائلي أو بين الأصدقاء فمن يدفع الثمن؟ نسرف كثيراَ في منازلنا ومشاريعنا سواء مواد البناء الإنشائية أو الكيابل والأفياش التي قد لا نحتاج إليها والإنارة على الأسوار وخارجها بدون سبب وفي شوارع أصلا بها إنارة البلدية.
تكلفة البناء بعد شراء الأرض تنتج عن عنصرين وهما مواد البناء وتكلفة العمالة. لذلك فإن ارتفاع أسعار العمالة الأجنبية يجب أن يكون مشجعاَ لنا ولابناننا للدخول في صناعة البناء وأن يصبح لدينا عمالة للبناء، وأن تقوم الدولة في البداية بدعم مثل هذه البرامج كدفع جزء من مرتب العامل السعودي ويدفع المقاول بقية الراتب.
لقد أشرت في مقالات سابقة إلى أن معظم دول العالم تدفع وتمول مشاريع الإسكان لمواطنيها ليس فقط لتوفير سكن لمن يحتاج بل لأن مواطنيها هم الذين يبنون وبذلك فهي تدفع لمواطنيها بينما نحن لنحل مشاكل الإسكان نحل مشاكل العمالة في الدول الأخرى.
ارتفاع أسعار مواد البناء والعمالة وإسرافنا في مواد البناء ومساحاته ظاهرة تستحق الطرح على طاولة النقاش فهي قد تستمر وترتفع لدرجات لا يمكن للمواطن تحملها. وهي موضوع يتطلب بذل كثير من التمويل للبحث العلمي لدراسة الظاهرة وإيجاد البدائل والحلول المناسبة للخروج من هذا المأزق قبل أن يفوت الفوت.