ماهي حقيقة دين الولايات المتحدة الأميركية لدى السعودية؟

تشتري الولايات المتحدة النفط السعودي مقابل توفير المساعدات والمعدّأت العسكرية للمملكة

نشرت مجلة بلومبيرغ الأميركية قصة تفصيلية حول ديون الولايات المتحدة الأميركية لدى السعودية. وأشارت بلومبيرغ إلى بداية

الأحداث في يوليو (تموز) 1974، بعيد تعيين وليام سايمون وزيراً للخزانة الأميركي.

“صعد سايمون ونائبه جيري بارسكي على متن الطائرة في الساعة الثامنة صباحاً في قاعدة أندروز الجوية. كان المزاج في تلك الرحلة متوتراً. ذلك العام، كانت أزمة النفط وصلت ذروتها بالولايات المتحدة بعد أن فرضت الدول العربية الأعضاء في “أوبك” حظراً على تصدير النفط لأميركا، كردة فعل للدعم العسكري الذي قدّمته الولايات المتحدة لإسرائيل خلال حرب أكتوبر 1973، مما تسبب برفع أسعار النفط 4 أضعاف. ارتفع التضخّم، وتحطمت سوق الأسهم، ودخل الاقتصاد الأميركي حالةً من الفوضى.

رسمياً، كانت رحلة سايمون المستمرة أسبوعين جولة دبلوماسية اقتصادية في جميع أنحاء أوروبا والشرق الأوسط، مليئة بالاستقبال والتوديع والمآدب الروتينية. إلا أن المهمة الحقيقية، والتي كانت سريّةً تماماً ضمن دائرة الرئيس ريتشارد نيكسون المقرّبة، جرت خلال توقف لمدة 4 أيام في مدينة جدة الساحلية بالمملكة العربية السعودية.

الهدف: تحييد النفط الخام كسلاح اقتصادي وإيجاد وسيلة لإقناع المملكة المعادية للولايات المتحدة حينها بتمويل العجز المتزايد للولايات المتحدة عبر عوائد البترول المكتشف حديثاً لدى المملكة. وبيّن نيكسون حينها لبارسكي أنه لن يقبل عودته خالي الوفاض. لن يهدد الفشل صحة الولايات المتحدة المالية فحسب، بل يمكت أن يفسح المجال أمام الاتحاد السوفييتي لمزيدٍ من النجاح في العالم العربي.

للوهلة الأولى، بدا سايمون غير مناسبٍ لمثل هذه المهمة الدبلوماسية الحساسة. وقبل أن يعمل في حكومة نيكسون، كان يدير مكتب سندات الخزانة في “سالومون براذرز”. كان يُعرف سايمون بعصبيّته ومقارنة نفسه بجنكيز خان، فضلاً عن كونه مغروراً بشكلٍ كبير. قبل وصوله إلى المملكة العربية السعودية بأسبوع، كان قد انتقد شاه إيران، الحليف الإقليمي المقرّب آنذاك، ونعته بالـ”أحمق”.

رغم ذلك، كان سايمون أكثر من يفهم نداء دين الحكومة الأميركية، ويعلم تماماً كيف يقنع السعودية بأنّ الولايات المتحدة هي الملاذ الآمن للبترودولار. مع تلك المعرفة، دبرت الإدارة خطةً غير مسبوقة من شأنها أن تؤثر في كل جانب من العلاقات الأميركية السعودية للعقود الأربعة القادمة.

وكان الإطار الأساسي للخطة بسيطاً جداً. وهي أن تشتري الولايات المتحدة النفط السعودي مقابل توفير المساعدات والمعدّأت العسكرية للمملكة. وفي المقابل، سيحرث السعوديون المليارات من عائدات البترودولار مرة أخرى إلى سندات الخزانة وسيموّلون الإنفاق الأميركي.

لم يكن الفشل خياراً!

مع مجموعة من مسؤولي وزارة الخزانة ومجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي في أميركا)، تم الاحتفاظ بالسر لأكثر من 4 عقود وحتى الآن. واستجابةً لطلب “وكالة أنباء بلومبرغ” المتعلّق بحريّة المعلومات، أفصحت الخزينة عن حيازات السعودية لأول مرة هذا الشهر: كنزٌ من 117 مليار دولار يجعل المملكة إحدى أكبر الدائنين الأجانب للولايات المتحدة.

إلا أن هذه المعلومات، من نواحٍ كثيرة، أثارت أسئلةً أكثر من التي أجابت عليها. ويقول مسؤولٌ سابق في الخزانة، متخصص في احتياطات البنك المركزي، وطلب عدم الكشف عن هويته: “الرقم الرسمي يستخف باستثمارات السعودية في السندات الحكومية الأميركية، والتي قد تكون الضعف أو أكثر”.

يمثّل الرصيد الحالي 20% فقط من احتياطات السعودية الأجنبية البالغة 587 مليار دولار، أي أقل بكثير من ثلثي ما تبقيه البنوك المركزية كأصول دولارية. ويتوقع بعض المحللين أن المملكة ربما تخفي حيازات ديون الولايات المتحدة عبر تجميع سندات الخزانة من خلال المراكز المالية الخارجية، والتي تظهر في بيانات دولٍ أخرى.

اليوم، كمية الديون الأميركية التي تمتلكها السعودية مهمة جداً أكثر من قبل.

في حين أن انهيار أسعار النفط تسبب بتعمّق القلق حول حاجة السعودية لتسييل سندات الخزانة من أجل جمع المال، برز أمرٌ مقلق أكثر: شبح استخدام السعودية مركزها الكبير في سوق الديون الأكثر أهمية بالعالم كسلاحٍ سياسيّ، مثلما فعلت خلال سبعينات القرن الماضي.

في أبريل (نيسان) الماضي، حذرت السعودية من أنها ستبدأ ببيع ما يقارب 750 مليار من سندات الخزانة وأصول أخرى إذا أقرّ الكونغرس مشروع قانون يحمل السعودية مسؤولية الهجمات الإرهابية في 11 سبتمبر (أيلول) بالمحاكم الأميركية، وذلك وفقاً لصحيفة “نيويورك تايمز”. ويأتي هذا التهديد وسط دفعة جديدة من قِبل مرشحين رئاسيين ومشرعين من كلا الحزبين الديمقراطي والجمهوري لرفع السريّ عن قسم يشمل 28 صفحة من تقرير للحكومة الأميركية عام 2004، يُعتقد بأنه يشمل تفاصيل حول علاقات السعودية بالهجوم الإرهابي. مشروع القانون هذا، والذي أقرّه “مجلس الشيوخ” في 17 مايو (أيار) 2016، هو الآن في “مجلس النواب”.

ورفضت “وزارة المالية السعودية” التعليق على البيع المحتمل لسندات الخزانة رداً على ذلك. ولم تجب “مؤسسة النقد العربي السعودي” فوراً على طلبات للحصول على نفاصيل عن الحجم الكلي لسندات ديون الحكومة الأميركية.

وقال الرئيس العالمي لاستراتيجية العملات في “براون براذرز هاريمان”، مارك تشاندلر: “فلنفترض أنهم لا يخدعوننا. إن السعوديين تحت ضغطٍ كبير. وأود القول أننا لا نحقق العدالة لأنفسنا عندما نقلل من شأن التزاماتنا للمالكين الكبار”.

المملكة العربية السعودية، التي لطالما قدمت الرعاية الصحية المجانية، ودعم البنزين، ورفع الرواتب الروتيني لمواطنيها عبر الثروة النفطية، تواجه بالفعل أزمةً مالية قاسية.

خلال العام الماضي وحده، صرفت السعودية 111 مليار دولار من احتياطياتها لتصل إلى أكبر عجز في ميزانيّتها خلال ربع قرن، حيث دفعت ثمن حروبٍ مكلفة لهزيمة “الدولة الإسلامية في العراق والشام” ومولت حملات بالوكالة ضد إيران. ورغم أن النفط استقر عند حوالي 50 دولار للبرميل (بعد أن كان أقل من 30 دولار بداية العام الجاري)، إلا أنه لايزال أقل بكثير من الأعوام التي وصل خلال سعر برميل النفط الخام إلى 100 دولار.

أصبح وضع المملكة سيئاً لدرجة أنها اضطرت لبيع جوهرة من تاجها، وهي شركة النفط “أرامكو السعودية”.

علاوةً عن ذلك، فإن الالتزام بسياسة “الاعتماد المتبادلس” بين الولايات المتحدة والسعودية، والتي يمتد عمرها لعقود بعد أن انبثقت من اتفاق ديون سايمون، بدأت بالتآكل. اتخذت الولايات المتحدة خطواتٍ مبدئية للتقرّب من إيران، وكان أبرزها صفقة الرئيس باراك أوباما النووية العام الماضي. كما أنّ طفرة الصخر الزيتي في الولايات المتحدة جعلتها أقلّ اعتماداً على النفط السعودي بكثير.

وقال زميل الشرق الأوسط في “مركز وودرو ويلسون الدولي” بواشنطن، ديفيد أوتاواي: “إن شراء السندات وكل ذلك كان استراتيجيةً لإعادة تدوير البترودولار وإعادته إلى الولايات المتحدة”. لكن من الناحية السياسية، “كانت دائماً علاقةً غامضة ومقيّدة”.

وفقاً لبارسكي، الذي يشغل اليوم منصب رئيس “أورورا كابيتال جروب”، كان تشكيل تلك العلاقة (والسرية التي احتاجتها) عام 1974 سهلاً ولا يحتاج للتفكير. كان الكثير من حلفاء الولايات المتحدة، بما فيها اليابان والمملكة المتحدة، معتمدين بشدّة على النفط السعودي ويتنافسون بهدوء لجعل السعودية تعيد استثمار الأموال في اقتصاداتهم.

وقال الضابط الاقتصادي مع “وزارة الخارجية” بـ”السفارة الأميركية في الرياض” بين 1976 و1978، غوردون براون: “كان الجميع، يمن فيهم الولايات المتحدة، وفرنسا، وبريطانيا، واليابان، يحاولون وضع أيديهم في جيوب السعودية”.

بالنسبة للسعوديين، لعبت السياسة دوراً كبيراً في إصرارهم أن تظل جميع استثمارات الخزانة مجهولة.

اندلعت التوترات بعد 10 أشهر من حرب أكتوبر 1973، وكان هناك عداء كبير في جميع أنحاء العالم العربي تجاه الولايات المتحدة بسبب دعمها لإسرائيل. ووفقاً لبرقية دبلوماسية، كان أكبر مخاوف الملك فيصل هو يكون مآل أموال النفط السعودي، بشكل مباشر أو غير مباشر، لتمويل إسرائيل عدوّها الأكبر على هيئة مساعدات أميركية إضافية.

حل مسؤولو “وزارة الخزانة” المعضلة عن طريق السماح للسعوديين بالدخول من الباب الخلفي. ضمن ترتيبٍ كان الأوّل من الكثير من الترتيبات الخاصة، سمحت الولايات المتحدة للسعودية بتجاوز عملية تقديم العطاءات التنافسية المعتادة لشراء سندات الخزانة من خلال خلق “إضافات “. هذه المبيعات، والتي استُبعِدت من مجاميع المزاد الرسمية، أخفت كل أثر لوجود المملكة العربية السعودية في سوق سندات الحكومة الأميركية.

وقال براون: “عندما وصلت إلى السفارة، قال لي الناس هناك أن هذا هو عمل الخزانة. وتم التعامل مع كلّ ذلك بسريّة تامّة”.

وبحلول 1977، كانت السعودية قد راكمت 20% من مجموع سندات الخزانة في الخارج، وذلك وفقاً لكتاب الأستاذ في جامعة كولومبيا ديفيد سبير، “اليد الخفية للهيمنة الأميركية: إعادة تدوير عائدات النفط والأسواق الدولية” (The Hidden Hand of American Hegemony: Petrodollar Recycling and International Markets).

وتم ترتيب استثناء آخر للسعودية عندما بدأت “وزارة الخزانة” إصدار تفاصيل ملكية ديون الولايات المتحدة لكل دولة. وبدل الكشف عن حيازات المملكة العربية السعودية، جمعتها “وزارة الخزانة” مع 14 دولة أخرى، كالكويت والإمارات العربية المتحدة و نيجيريا، تحت عنوان عام وهو “الدول المصدرة للنفط”. استمرت هذه الممارسة لمدة 41 عاماً.

وجلب النظام معه مشكلاته. فبعد أن أُتيحت إضافة “وزارة الخزانة” لبنوك مركزية أخرى، هدّد الطلب الأجنبي الغير معلن والخاطئ خلال عدّة مناسبات، بدفع الولايات المتحدة فوق سقف ديونها.

وبيّنت مذكرة داخلية في أكتوبر (تشرين الأول) 1976، تفاصيل كيف جمعت الولايات المتحدة دون قصد أكثر من الـ800 مليون دولار التي كانت تعزم اقتراضها في مزاد علني. وخلال ذلك الوقت، استخدم اثنان من البنوك المركزية مجهولة الهوية إضافاتٍ لشراء مبلغ إضافي قدره 400 مليون دولار من سندات الخزانة لكل منهما. وفي النهاية، حصل بنك واحد على حصته متأخراً يوماً واحداً لإبقاء الولايات المتحدة من تجاوز سقف الدين.

اقرأ أيضاً:

ديون العالم تجاوزت التوقعات لتصل إلى 100 تريليون دولار

توقعات بارتفاع الديون العالمية الحكومية إلى 42.4 تريليون دولار هذا العام

السعودية والكونغرس الأمريكي... من سيربح المواجهة؟

Top