طريق اللاعودة.. ماذا بعد انفصال بريطانيا؟
هبّت الرياح بما لا تشتهي السفن… بريطانيا تقرر الانسحاب من عضوية الاتحاد الاوروبي بعد 40 عاما..
يتم الآن اعادة تشكيل العالم من جديد.. بريطانيا تغيرت.. والعالم ايضا في الطريق
البداية كانت مع وعد رئيس الوزراء البريطاني وزعيم حزب المحافظين ديفيد كاميرون الناخبين في عام 2013 بأن يتم اجراء استفتاء على عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي قبل عام 2017 حال انتخابه عام 2015.
لم يتخيل كاميرون يوما أن وعده هذا سيؤدي إلى انفصال بريطانيا التي قد تجر وراءها تفكك الاتحاد الأوروبي … وتغيير مسار التاريخ.
فاز حزب كاميرون وخسرت بريطانيا… بعد ان التزم رئيس الوزراء البريطاني بالوعد الذي قطعه للناخبين، ففي فبراير 2016 تم تحديد موعد اجراء الاستفتاء. وبعد أربعة أشهر فقط تحدد مصير البلاد في يةم تاريخي هو 23 يونيو 2016.
382 دائرة انتخابية وأكثر من 33.5 مليون ناخب قاموا بالتصويت في الاستفتاء المصيري بنسبة تصويت وصلت الى 72% لتعتبر الأعلى منذ الانتخابات العامة عام 1992.
فاز معسكر الخروج بنسبة 51.9% مقابل 48.1% لمعسكر البقاء ليعكس مدى حدة انقسام الشعب البريطاني.
ماذا يعني مصطلح الــ BREXIT؟
Brexit يعني انفصال (خروج) بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي وهي عبارة عن كلمتين Britain (بريطانيا) و EXIT (الخروج) تم دمجهما معا في كلمة واحدة وذلك على غرار الـ GREXIT كمصطلح ظهر مع اندلاع ازمة الديون السيادية وشبح افلاس اليونان ومن ثم خروجها من منطقة اليورو.
وبعد ان بات الاستفتاء على انفصال بريطانيا امرا حتميا، خرجت العديد من التصريحات والتقارير المتخصصة التي توضح احتمالات والاثار السلبية للانفصال، بدءا من وزارة الخزانة البريطانية وحتى المؤسسات المالية العالمية وصولا الى مراكز الأبحاث المتخصصة.
ورغم تقارب التوقعات بشأن مدى الأثر السلبي، إلا ان صعوبة معرفة او تقدير الأثر الحقيقي تسبب في زيادة حالة عدم الوضوح بشأن مستقبل الاقتصاد العالمي في ظل اجماع المجتمع الدولي على أن انفصال بريطانيا يعد أحد أكبر المخاطر التي تواجه العالم.
ما هو تأثير انفصال بريطانيا عن أوروبا؟
منذ الإعلان عن موعد الاستفتاء في فبراير 2016 صدرت مئات التحليلات والتقارير والدراسات التي فندت سلبيات وإيجابيات الانفصال سنحاول أن نفنّد أبرز ما جاء فيها في سلسلة مقالات ننشرها اعتبارا من اليوم.
العلاقات البريطانية – الأوروبية
قبل الدخول في سلبيات وإيجابيات “الطلاق” البريطاني – الأوروبي نستعرض بعض الحقائق عن اقتصاد المملكة المتحدة وعلاقتها بالاتحاد الأوروبي:
- 1973 الانضمام إلى المجموعة الاقتصادية الأوروبية (EEC)
- 1975 تاريخ نجاح الاستفتاء الخاص بانضمام بريطانيا في عضوية الانضمام إلى المجموعة الاقتصادية الأوروبية (EEC).
- 1992 تطور المجموعة الاقتصادية الأوروبية بعد توقيع معاهدة ماستريخت ليصبح الاتحاد الأوروبي.
- بريطانيا تحتل المركز الخامس كأكبر اقتصاد عالمي.
- ثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي بعد المانيا.
- 44.6% من الصادرات البريطانية تذهب إلى الاتحاد الأوروبي (تقديرات ONS 2014(
- 53.2% من الواردات البريطانية يأتي من الاتحاد الأوروبي. (تقديرات ONS 2014(
- الشركات المسجلة داخل بريطانيا لديها الحق في فتح فروع وممارسة أنشطتها في جميع دول الاتحاد الأوروبي تحت مظلة ما يعرف بالـ “PASSPORTING”.
- حرية التنقل والإقامة في أي من دول الاتحاد الأوروبي، وتمتد إلى الحصول على الرعاية الاجتماعية والحق في التقاعد، جميعها مكفولة للمواطن البريطاني.
- الاتحاد الأوروبي أكبر اقتصاد على وجه الأرض ولديه أكبر سوق مشتركة في العالم ويضم 500 مليون عميل محتمل.
- حرية انتقال السلع والخدمات من دون تعريفات جمركية بالإضافة إلى انتقال رؤوس الأموال دون قيود امر مكفول لدول الاتحاد بما فيهم بريطانيا.
بريطانيا.. البلد المدلل في الاتحاد الاوروبي
امتيازات بريطانيا
ستون عاما من الشد والجذب مع بروكسل، المقر الرئيسي لرئاسة الاتحاد الأوروبي، لكن ذلك لم يمنع من ان تتمتع بريطانيا بمزايا خاصة دون باقي الدول، في الوقت الذي كان يصب في مصلحة بريطانيا أكثر مما يصب في مصلحة الاتحاد الأوروبي، ومع ذلك ربما تناسى معسكر الخروج هذه المزايا.
وربما اهم تلك المزايا هو حرية تنقل الأشخاص في منطقة الشنغن والذي تستثنى منه بريطانيا، استقلال السياسة النقدية، اعفاء بريطانيا من الالتزام بتطبيق قواعد الموازنة المتوازنة وفقا لمعايير الاتحاد الأوروبي.
وربما الأهم من ذلك كله، هو نتيجة مباحثات كاميرون مع الاتحاد الأوروبي والتي تكللت بحصول بريطانيا على امتيازات أخرى شديدة الأهمية والتي ربما قد تكون مرضية نوعا ما لمزاعم معسكر الانفصال.
اتفاق كاميرون الجديد.. مزايا أكبر لعضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي
يوم 19 فبراير تم الإعلان عن بنود الاتفاق والمزايا الجديدة مع الاتحاد الأوروبي يتم تطبيقها فوراً إذا جاءت نتيجة الاستفتاء بالبقاء، والتي تضمن لبريطانيا عدم الانضمام بأي شكل من الاشكال إلى العملة الأوروبية الموحدة (اليورو) والتخلي عن الجنيه الإسترليني، وضمان عدم تمييز اي دولة اوروبية ضد بريطانيا لاستخدامها عملة مختلفة.
هذا بالاضافة إلى الحصول على اي اموال بريطانية تنفق لإنقاذ دولة اوروبية متعثرة لاسيما دول منطقة اليورو، الى جانب حماية قطاع الخدمات المالية من القوانين الاوروبية.
دعم السيادة الوطنية
لم تتوقف بنود الاتفاق الجديد عند هذا الحد، بل ضمنت عدم إلزام بريطانيا بأي اندماج سياسي أبعد من الوضع الحالي، الى بجانب دعم السيادة الوطنية، من خلال تمكين البرلمانات المحلية في الاتحاد الأوروبي من تعطيل أي مشروع قانون تقره بروكسل إذا ما جاءت نسبة التصويت بالرفض أكثر من 55% من البرلمانات المحلية او ما يعرف بآلية “الكارت الأحمر”.
مزايا الرعاية الاجتماعية والمهاجرين
أخيرا وفيما يتعلق بالمهاجرين وهي أحد المحاور الهامة لمعسكر الخروج من الاتحاد الأوروبي، فإن الاتفاق الجديد، يعطي بريطانيا الحق في تقييد منح الرعاية الاجتماعية للمهاجرين – من الاتحاد الأوروبي- خلال السنوات الأربع الأولى من اقامتهم، كما ضمن الاتفاق إمكانية إرسال أموال الرعاية الاجتماعية لأطفال العمال المهاجرين بعد ان تحدد قيمتها وفقا لمستوى المعيشة في الدول التي يعيش فيها هؤلاء الاطفال (كان مطلب كاميرون في الأساس بأن يحظر ارسال هذه الأموال برمتها).
وفيما يتعلق بالمهاجر الذي وصل حديثا إلى بريطانيا ويبحث عن عمل، حظر الاتفاق حصوله على إعانة بطالة لمدة ثلاثة أشهر، وفرض مغادرته البلاد إذا مرت ستة أشهر و لم يحصل على وظيفة.
في النهاية، كانت تعديلات مقبولة، لكن فيما يبدو ان الرسالة لم تصل او لم تقنع البريطانيين الذين صوتوا بالانفصال!
هل استفادت بريطانيا من عضوية الاتحاد الأوروبي؟
في ابريل 2016 أصدرت وزارة الخزانة البريطانية تقريرا من 202 صفحة حاولت فيه الإجابة على هذا التساؤل الهام… هذا الى جانب قيام العديد من مراكز الأبحاث المستقلة والمتخصصة في نشر تقديرات متعلقة بهذا الصدد.
75% معدل نمو التجارة البريطانية مع الاتحاد الأوروبي منذ 1973
نمو تجارة بريطانيا مع الاتحاد الأوروبي بلغ 75% منذ انضمام البلاد لعضوية الاتحاد الأوروبي وفقا لتقرير وزارة الخزانة البريطانية، بينما كان يمكن ان يكون نصيب الفرد من الدخل القومي أقل بنسبة 25% إذا لم يتم الانضمام إلى المجموعة الاقتصادية الأوروبية عام 1973 والذي عرف فيما بعد باسم الاتحاد الأوروبي.
وذهبت مؤسسة “Civitas” البحثية المستقلة أبعد من ذلك، عندما اشارت في دراسة أصدرتها عام 2014 إلى ان الصادرات السلعية البريطانية إلى الاتحاد الأوروبي شهدت نموا بنسبة 81% في الفترة (1993-2011) في إشارة إلى استفادة بريطانيا بعد دخول معاهدة ماستريخت عام 1993 (معاهدة الاتحاد الأوروبي) حيز التنفيذ في نوفمبر من نفس العام.
وللعلم فإن الصادرات السلعية البريطانية تبلغ ثلثي اجمالي الصادرات إلى الاتحاد الأوروبي، بينما تمثل الواردات السلعية 75% من اجمالي الواردات البريطانية مع الاتحاد الأوروبي وذلك حسب مكتب الإحصاءات القومي (ONS) في الوقت الذي شهدت فيه الصادرات السلعية إلى الاتحاد الاوروبي نموً بنسبة 3.9% في المتوسط سنويا في الفترة (1999-2014) مقابل نمو بنسبة 4.7% للواردات في الفترة نفسها.
ويضيف مكتب الإحصاءات القومي (ONS) انه رغم تسجيل بريطانيا تاريخيا عجزا في الميزان التجاري “السلعي” مع الاتحاد الأوروبي، إلا ان الميزان التجاري الخدماتي كان أفضل أداء بكثير حيث ظل يسجل فائضا سنويا منذ عام 2005 إلى ان بلغ 15.4 مليار جنيه إسترليني عام 2014.
كل وظيفة من أصل 10 وظائف في بريطانيا تعتمد على عضويتها في الاتحاد الأوروبي
بالطبع الاستمتاع بمزايا السوق المشتركة وعدم وجود حواجز جمركية وسهولة انتقال رؤوس الأموال أدت إلى تعاظم التجارة البريطانية وهذا أكبر دليل على مدى استفادة بريطانيا من وجودها داخل الاتحادز وبحسب تقديرات مكتب الإحصاءات الوطني فإن 3.2 مليون فرصة عمل في بريطانيا مرتبطة بصادرات البلاد إلى الاتحاد الأوروبي وفقا للمعهد الوطني للأبحاث الاقتصادية والاجتماعية (NIESR) وكان مركز أبحاث الاقتصاد والاعمال (CEBR) يتوقع نمو الوظائف في القطاع بنحو 790 ألف وظيفة بحلول 2030 لو لم تنفصل بريطانيا!
دعم النمو الاقتصادي البريطاني على مدار 40 عاما
استفادة بريطانيا لم تقف عند حدود الصادرات فقط، بل امتد أثر ذلك إلى الاقتصاد الحقيقي، وبحسب اتحاد الصناعة البريطاني (CBI) فإن عضوية الاتحاد الأوروبي ساهمت في 4 الى 5% من الناتج المحلي البريطاني سنوياً على مدار 40 عاماً او ما يعادل 62 إلى 78 مليار إسترليني سنوياً.
حرية الانتقال والسفر.. حتى التقاعد داخل الاتحاد الأوروبي
“هل تعلم: ان المواطن البريطاني يستطيع الانتقال بحرية داخل دول الاتحاد الأوروبي السبع والعشرين، وبامكانه التقاعد في أي دولة من الاتحاد دون شرط او قيد كأنه يعيش في بلده الام.. بريطانيا”
هذه الميزة لا يعرفها إلا المستفيد منها، الانتقال عبر قارة بأكملها، من دون شروط، كمواطن داخل الاتحاد الأوروبي للمواطن البريطاني الحق الكامل في السفر إلى 28 دولة كأنها دولة.
وإضافة الى ضمان حرية التنقل يحق للمواطن البريطاني ان يعمل او يقيم او يتقاعد في أي دولة من دول الاتحاد الأوروبي، كل ما يحتاجه فقط هو أن يسجل نفسه في البلد المضيف، وأن يكون لديه ما يكفي من المال لإعالة نفسه إضافة الى التأمين الصحي الشامل… وإذا اقام في البلد المضيف مدة 5 سنوات او أكثر لم يعد ملزما بأي من الشروط السابقة.
وإذا إختار المواطن البريطاني ان يتقاعد في أي بلد أوروبي اخر، يستمر في الحصول على المعاش الخاص به بعد اخطار الجهات المختصة.
وذكرت صحيفة “الاندبندنت” انه عند سفر المواطن البريطاني إلى أي دولة أوروبية لديه الحق في الحصول على رعاية طبية طارئة، بينما إذا كان مسافراً إلى دولة خارج الاتحاد الأوروبي فحق الحماية القنصلية مكفول له من أي سفارة للاتحاد الأوروبي في حالة عدم وجود سفارة بريطانية.
ربما قد أدرك البريطانيون متأخراين خطورة الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، ففي الساعات الأولى لاعلان نتيجة الاستفتاء بانفصال بريطانيا، ارتفعت معدلات البحث عن مزايا جواز السفر الايرلندي وامتد الامر إلى اقبال غير مسبوق على استخراج هذه الجواز الذي ربما قد يكون للبعض الملاذ الآمن بعد إتمام عملية الانفصال..
بقلم: محمد جلال
محلل الاسواق العالمية في CNBC Arabia
(غدا: كيف سيؤثر انفصال بريطانيا على الجنيه الاسترليني).